صديقي التائه مثلي لم يشاطرني الرأي في أمر هذه السلسلات المهنية الموسمية، معتبرا أنها مجرد أوجه لنشاطات بئيسة أفرزها مجتمع الفقر والفاقة، لأن المهنة شيء آخر.. لكني أقول له مرة أخرى من هذا المنبر أن الأمر يتعلق فعلا بمهن حكم عليها بأن تنزوي في الظل لا لشيء إلا أنها قادمة من الهامش وتعبر بوضوح مشين عن بؤس الواقع وأهوال هذا الهامش المأزوم ..
فالمهنة هي الحرفة أو الوظيفة ليس دائما بالمعنى الإداري التي يحترفها شخص ما وتدر عليه ربحا معينا يمكنه من العيش وهذا التعريف البسيط ينسحب على ما تقدم ما تأخر في هذه السلسلة.. من حيال مهن أثبتت وجودها في النسيج المجتمعي وصارت ملاذا ناجعا لكثير ممن هزمهم القدر وأذاقهم من شرابه المرير ...
فلنترك هذا الحديث جانبا ولنبقى في بحثنا الدؤوب عن مهن حاضرة في واقعنا .. نصادفها يوميا ومع ذلك لا نناقشها إلا بحرص شديد .. فالحمال مثلا الذي يجسد بمهنته .. أو نشاطه على حد قول صديقي .. مكرا مجتمعيا مروعا صرنا نقابله في كل مكان نطأ عتبته يمتهن مهنة حمل الأثقال على أكتافه .... إنها مهنة قديمة تعود إلى ملايين السنين.. إلى عهد مصر الفرعونية.. عندما فرض على الشعب المغلوب على أمره حمل حجارة بناء الأهرام لإرضاء غرور الفراعنة وجنونهم.. لتتحول هذه العملية بعدئذ إلى مهنة عرفت ذيوعا عاليا في جميع أنحاء الدنيا.. واستمرت عجلة التطور والتحدي في الدورات إلى اللحظة التي داهم فيها التقدم مهنة الحمل ليصبح الحمال في المطارات والمحطات رجلا أنيقا وتسعفه عربة أنيقة .. وأن لا يرضى هذا الأخير إلا بالعملة الصعبة.. فالدنيا حظوظ ففي الوقت الذي نجد فيه حمالا بئيسا.. يحمل صندوقا من البطاطيس بدرهم واحد في سوق شعبي نجد آخرين مهندسين ومنظمين يجنون العملة الصعبة من أعمال جد بسيطة ..
أحدهم قال لي ذات مرة أنه يريد أن يكون حمالا في المارشي أو المطار.. على أن يحمل شهادته في اعتصام أو إضراب عن الطعام ..عذرته فعلا لأنه رأى ما رأى في زمن العجب العجاب .. هذه هي دنيانا التي تقاطعت فيها الأرزاق وتناقضت فيها المواقف وانتفت من جنباتها كل مبادىء الخير والإحسان.. تحولت إلى غابة ملأى بالسباع والضباع والجياع.
فبعضهم يحمل أثقالا كارثية لا تساوي شيئا وآخرون محظوظون أو يحملون حقائب فاخرة تضم ما لا يصدقه القلب ولا ينطقه اللسان... ولكل فريق ما كسب ...
موضوع: الحمال 
الجمعة مايو 16, 2008 5:23 am
